معنى أن تكون سجيناً..
إنّ سجني خلوة وقتلي شهادة ونفيي سياحة!
بقلم: د. عصام العريان
السجن هو فقدان الحرية والشعور بثقل القيود والأغلال.
والحرية هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»، وأن تكون سجيناً يعني في البداية أمرين:
الأول: أن تشعر بقيمة الحرية التي لم تكن تحس بها، كالصحة ونعمة العافية التي لا يراها إلا المرضى تاجاً على رؤوس الأصحاء.
الثاني: أن تعلم معنى الحرية الحقيقية، فليست الحرية مجرد الانطلاق بالجسد بلا قيود، فهناك حرية الروح التي لا تحدّها حدود ولا توقفها سدود، ولا تقيّدها أغلال ولا تحوطها أسوار.
هنا تقرأ قول الله تعالى بتأمل وتفكر: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} الحديد: 13.
وتشعر بالمعنى الذي قصده شيخ الإسلام أحمد بن تيمية عندما دخل سجن قلعة دمشق عدة مرات، فقال: «ما يفعل أعدائي بي، إنّ سجني خلوة، وقتلي شهادة، ونفيي سياحة، جنتي وبستاني في صدري، أينما ذهبت فهي معي لا تفارقني».
وتردد مع الشهيد سيد قطب ترنيمته الرائعة:
أخي أنت حرّ وراء السدود أخي أنت حرّ بتلك القيود
إذا كنت بالله مستعصماً فماذا يَضيرك كيدُ العبيد
إذا سيطر عليك المعنى الأول للحرية فإنك سيضيق صدرك إذا أغلقوا عليك الأبواب أو منعوك من الزيارات.
أما إذا عشت المعنى الثاني للحرية الحقيقية فستشعر بالأنس الحقيقي مع الله, حتى لو أغلقوا عليك الأبواب ولو عاقبوك بالسجن الانفرادي الذي عرفتُه مرتين، الأولى لـ21 يوماً في سجن القلعة عام 1981م، وسط التعذيب والتشريد ومنع كل شيء أثناء التحقيقات في قضية اغتيال السادات، والثاني لسبعة أيام عقوبة على احتكاك بمأمور سجن المزرعة, حيث لا مؤنس إلا القرآن والذكر والصلاة، ولا حديث إلا بالتأمل والتفكر في حكمة الله وقدرته وتصريفه للكون.
السجن هو ابتلاء ومحنة، وامتحان وتجربة.
وحين تكون سجيناً أن تتأمل سنة الابتلاء في الكون، وحكمة الله فيه.
وإن أنس لا أنس كلمة والدة الأخ العزيز د. محمد بليغ الذي برّأته المحكمة العسكرية في القضية الأخيرة (قضية خيرت الشاطر ود. بشر وحسن مالك)، وفور خروجه أصابه مرض خطير نادر، زحف على عضلاته يضعفها ويشلها عن الحركة، حتى قارب الفيروس النادر الوصول إلى قفصه الصدرى ليمنع عضلاته من التنفس، وتكون النهاية المحتومة. وزرته مع أصدقاء بمستشفى «المقاولون العرب», حيث يرقد ضعيفاً مسكيناً صابراً محتسباً، وقالت أمه: «كان الأفضل عندي أن تحكم عليه المحكمة بأي سجن ولو طالت مدته، ولا أراه في هذه الحالة ونحن عاجزون عن إنقاذه»، وكانت رحمة الله قريب من المحسنين، فانتقل فوراً إلى ألمانيا حيث تلقى علاجاً هو عبارة عن مصل منع انتشار المرض، وأنقذ الله حياته في اللحظات الأخيرة.
ونحن نتذكر الأخ الكريم في نفس القضية من كفر الشيخ (سعيد سعد)، وكان يوم خروجه من السجن هو يوم ابتلائه الأشد بفقدان ولده البكر في حادثة أليمة، فكان الناس يعزّونه ولا يهنئونه، ولا يدرون ماذا يقولون له، فأنت لا تدري أي ابتلاء ينتظرك؟ وتأمل معي حكمة ابن عطاء الله التي يقول فيها: «لا تستغرب وقوع الأكدار ما دمت في هذه الدار، فإنها ما أبرزت إلا مستحق وصفها، وواجب نعتها».
وقد يدفع الله عنك ابتلاءً أشد بآخر أخف، وهو السجن.
وقد يمنع عنك العين والحسد إذا كنت ضيفاً دائماً على السجون.
وقد يعوّضك الله بنعم وفيرة كثيرة، لا تدركها إذا صبرت ورضيت، وأيقنت بأن اختيار الله لك هو الخير كله، وهو أفضل من اختيارك لنفسك.
السجن للبريء ظلم بيّن، واعتداء على حرمات الناس أثيم.
وإذا ذقت الظلم مرةً أو مرات، فستتعلم ألاّ تظلم أحداً، وأن تكون رحيماً بالخلق، كريماً مع أعدائك، ذا مروءة مع خصومك.
ستكون لطيفاً صابراً حكيماً في تعاملك مع السجَّان الذي تراه يوميّاً يغلق عليك الباب الحديدي بقسوة، وفي تعاملك مع الحارس الذي يصحبك كل ترحيلة إلى النيابة أو المحكمة، ومعه ورقة تشدد عليه أن يكون غليظاً معك, لأنك شديد الخطورة ويخشى من هربك، ومع رئيس النيابة الذي يحقق معك في تهم هو أول مَن يعلم تهافتها وبطلانها وعدم جدّيتها، ومع الطبيب الذي يخاف أن يقترب منك وأن يقرّر في الأوراق خطورة مرضك, لأن فوق رأسه ضابط أمن دولة يملي عليه القرار، وحتى مع رؤوس جهاز أمن الدولة الذين كنت تلقاهم بالأمس باشين مرحبين، فإذا بهم يدبّجون المذكرات الباطلة التي لا بد منها شكليّاً لحبسك ومحاكمتك وسجنك لسنوات طوال.
والأحق بالعذر أيضاً هم أهلك الذين قد يتخلفون عن زيارتك أحياناً أو يبطئون بها حيناً، وأصدقاؤك الذين ظننت أنهم لن يتأخروا عن مؤازرتك فإذا بهم ينشغلون عنك بزحمة الحياة، ورفيق الزنزانة الذي يرقد بجوارك، ووجهه في وجهك 24 ساعة, بسبب الظروف النفسية والاجتماعية التي يمرّ بها، بل تعذر المساجين الذين لا يتوقفون عن طلب المساعدة ويظنون بك الخير، ولا يدرون أن استغاثة السجين بالسجين هي مجرد تنفيس عن النفس ولا تجدي نفعاً. أن تكون سجيناً يعني أنك تتعرف على قدرك الحقيقي وقوة تأثيرك في الحياة.
وأنت حر طليق تتصور أن دولاب الحياة سيتوقف إذا غبت أو سافرت أو مرضت، فما بالك إذا سُجنت.
وعندما تمرّ بك الليالي والأيام وأنت خلف الأسوار تشعر حينئذٍ بقيمتك الحقيقية، وأنك لست الرزاق، ولا المدير الخطير، ولا المسؤول الهام.
كل شيء يسير كما كان دون توقف أو تأثير، أنت مجرّد أداة لقدر الله، وقدر الله لا يتوقف عليك ولا على غيرك.
حينئذٍ ستعرف أهمية أن تعلّم زوجتك وأولادك وإخوانك معنى الإيمان الحقيقي بالله تعالى، وقدرته وغناه وقوته، وأنهم وأنت والكون جميعاً يسير بإرادته، وهو سبحانه مسبب الأسباب ومقدّر الأقدار.
أن تكون سجيناً يعني أن تتعلم البساطة والتواضع، فحياتك تتحول إلى أمور واهتمامات صغيرة جدّاً، وكل ملكك في الدنيا هي حجرة لا تتجاوز بضعة أمتار في بضعة أمتار، نصيبك منها قد لا يتعدى مترين مربعين تضع فيها كل أشيائك، هذه المساحة الصغيرة هي حجرة النوم والطعام والمعيشة والصالون والحمام والمكتب، هي كل حياتك، وطعامك مهما جاءك من الخارج هو البساطة بعينها، فأنت لا تملك شيئاً، فتعلم أن الله هو مالك الملك وملك الملوك.
تتعلم كيف تعتمد بعد الله على نفسك في كل شيء، فلا بدّ أن تنهض لخدمة نفسك وخدمة الآخرين الذين تجد السعادة في خدمتهم والتخفيف عنهم.
أن تكون سجيناً يعني أن تقترب أكثر من الله، تشعر بالفقر الحقيقي إليه، والاضطرار الجادّ بين يديه، وترضى عنه سبحانه وترضى بقضائه وقدَره، وأن تتعاطف مع كل مظلوم أو سجين مهما كانت جريمته، وتسأل الله أن يتوب عليك وعليه.
هذه خواطر سجين كتبها أثناء سجنه الأخير، وعاشها في سجنه الطويل، وخرج أخيراً من سجن صغير إلى سجن كبير، وسيخرج بعد حين طال أو قصر، من سجن الدنيا إلى الفضاء الأرحب, حيث تسرح الأرواح وتروح تحت عرش الرحمن، نسأل الله أن يجعل أرواحنا في حواصل طير خضر كما أخبر صلى الله عليه وسلم.